ص1       الفهرس  71-80

النقط والإعجام

في الكتابة العربية القديمة

 

العبدلاوي قدور

إن الباحث في تاريخ الكتابة العربية القديمة عبر تاريخ سكان منطقة الشرق الأوسط من بلاد الشام شمالا، إلى اليمن جنوبا، ومن أطراف الخليج العربي والعراق شرقا، إلى أرض سيناء ومصر غربا، ليجد أن هذه الكتابة مرت بمراحل تاريخية عبر حضارات تداولت على هذه المناطق، إلى جاء الإسلام ولقف هذه الكتابة على تلك الحال من البدائية فعمل المسلمون على تطوير أبجديتها إلى أن انتهت إلى الهيئة الهجائية في الرسم والنقط والإعجام التي عليها الآن. والذي أخذ بانتباهي، وأنا أعالج جانبا من هذا الموضوع في رسالة (د.د.ع) منذ زمان، هو قضية الحروف ذات الصورة الواحدة في الرسم، ولم رسمت كذلك؟ لأنه كان في وسع واضع الهجاء العربي هذا، أن يهتدي لبلورة صور أخرى تكتب بها هذه الحروف. وهذا يقود الباحث إلى إعادة النظر في (فلسفة) النقط والإعجام، منذ العصر الجاهلي إلى القرن الأول الهجري، وعلاقتهما بهذه الحروف ذات الصور الواحدة في الرسم


[1].

1 ـ في العصر الجاهلي:

من خلال استعراضنا للنقوش الستة (انظر اللوحة) والتي يرجع عهدها إلى العصر الجاهلي، لم نلاحظ ضوابط إملائية ولا إعرابية لتلك الكتابة، كما هو اليوم عندنا من نقط الحروف وشكلها بالحركات الإعرابية. فهل يعني ذلك أن الكتابة العربية في ذلك العهد، على اختلاف أشكالها، لم تعرف تلك القيود من نقط وإعجام وحركات مد طويلة؟.. وإذا لم تعرفها في ذلك العصر، هل عرفتها في بداية القرن الأول الهجري الذي عرفت فيه هذه الكتابة تطورا كبيرا على يد العلماء بناء على ما وصل إليه المجتمع العربي والإسلامي من تطور حضاري؟

إذا كانت تلك النقوش لما قبل الإسلام، تنفي أن تكون تلك الكتابة قد عرفت ذلك، فهل الكتابة الإسلامية الأولى حافظت على نفس القواعد الكتابية تلك ولم تضف إليها شيئا[2]؟ كما أن القرن الأول الهجري، قد خلف لنا هو بدوره نقوشا كتابية، قد تكون الحكم الفصل في الإجابة على هذه التساؤلات.

انقسم الباحثون حول هذا الموضوع، فمنهم من قال بأن النقط والإعجام قديمان في اللغات السامية، والعربية واحدة منها. ومنهم من نفى ذلك، وقال بأن الأبجدية العربية كانت لا تعجم ولا تعرب كأخواتها السامية "باستثناء الأبجدية الحبشية"[3]، التي كانت تعرف الإعجام بالنقط. أما الأبجدية العربية فقد عرفت ذلك في نهاية القرن الأول الهجري، لذلك سنناقش رأي الفريقين معا:

الفريق الأول:

اعتمد هؤلاء على عدة براهين أساسية تعتبر حجة على قدم النقط والإعجام في الأبجدية العربية. فمن ذلك رواية الرجال الثلاثة الذين وضعوا هذه الأبجدية، وأن أحدهم وضع الإعجام للحروف ذات الصور الواحدة[4]. ثم هناك من يقول، بأن الأبجدية العربية قد أعجمت حروفها وشكلت قبل الإسلام بناء على تأثرها بالكتابة السريانية والعبرانية. فقد أعجم هؤلاء كثيرا من الحروف المتشابهة في الخط في لغتهم، حتى ميزوا كل حرف عما يمكن أن يلتبس معه.

ومنهم من اعتمد على روايات وأحاديث وشواهد من الشعر الجاهلي، الذي وردت فيه إشارات كثيرة، وتلميحات متنوعة إلى الكتابة وآلاتها من الأقلام وأنواع الخطوط وكل ما يتعلق بها كالكتاب والسطور والإعجام. فمن ذلك قول الأخنس بن شهاب الثغلبي (556هـ)[5]:

لابنة حطان بن عوف منازل     كما رقش العنوان في الرق كاتب[6]

وهذا شاعر جاهلي آخر، عرف بنفس الاسم، لبيت قاله، وهو المرقش الأكبر:

الدار قفر والرسوم كما     رقش في ظهر الأديم قلم[7]

فكانت أقرب صورة لذهنه حين رأى آثار دار محبوبته الدارسة، أن شبهها بأثر القلم على وجه الأديم، أو الكتابة التي أخذت رسوم صورها تضمحل.

وهذا طرفة بن العبد[8]، يقيم نفس الصورة الشعرية بأدوات الكتابة، ويذكر نفس اللفظة:

كسطور الرق رقشه  بالضحى مرقش يشمه[9]

ومما يدل على أن الإعجام والنقط كانا معروفين ومستعملين في الجاهلية، أن الصحابة رضوان الله عليهم، قد أمروا بتجريد "المصحف حين  جمعوا القرآن من النقط والشكل وهو أجدر بهما، فلو كان مطلوبا لما جردوه منه[10]". فمن أين عرف الصحابة النقط  والإعجام حتى جردوا المصحف منهما؟ فلو لم يكونوا يعرفونهما لما جردوه منها!

ونقلت الأستاذة سهيلة الجبوري حديثا نبويا، أورده أحد الباحثين العرب هذا نصه: "وعن عبيد بن أوس الغساني، كاتب معاوية، قال: كتبت بين يدي معاوية كتابا. فقال لي: يا عبيد، ارقش كتابك. فإني كتبت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال، يا معاوية، ارقش كتابك. قال عبيد: وما رقشه يا أمير المؤمنين؟ قال: اعط كل حرف ما ينوبه من النقط[11]".

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لكتبة الوحي: "إذا اختلفتم في الياء والتاء فاكتبوها بالياء[12]".

فحديث النبي صلى الله عليه وسلم لكتبة الوحي في موضوع الرقش والإعجام وقول الصحابة بتجريد المصاحف من ذلك، يستنتج منه أنهم كانوا يعرفون النقط بالإعجام، والنقط بالإعراب أيام البعثة، ومعنى ذلك أنهما كانا شائعين في الكتابة الجاهلية.

قال أبو عمرو الداني[13] في نقط المصاحف "هذا يدل على أن الصحابة وأكابر التابعين رضوان الله عليهم، هم المبتدئون بالنقط، ورسم الخموس والعشور[14]".

وإذا ساءلنا النقوش الإسلامية للنصف الأول من القرن الهجري الأول، نجد أن بعض هذه النقوش مهمل الحروف التي كان من الواجب أن تعجم، مثل نقش القاهرة الذي يرجع تاريخه إلى سنة (31هـ). بينما نقش الطائف(58هـ)، وهو كتابة على حجر لسد بناه الخليفة الأموي معاوية، نجد كثيرا من الحروف التي يجب أن تعجم قد أعجمت، كما أهملت أخرى معجمة في الأصل[15].

أما نقش حفنة الأبيض(64هـ) حسب الصورة التي أخذت له، فهو خال من الإعجام، لكن دارسين لنفس النقش يشيران إلى "وجود ثلاثة حروف معجمة في هذا النقش وهي: الباء والياء والثاء في السطرين الثاني والثالث" وهذا ما لم تثبته الصورة والملتقطة له[16].

الفريق الثاني:

أما هذا الفريق من الباحثين الذي ينفي أن تكون الكتابة العربية قد عرفت الإعجام والشكل قبل الإسلام، فأفراده يميلون إلى أنها ورثت ذلك من الكتابات السابقة عنها، والتي انحدر منها الخط العربي عبر تاريخ تطوره، ولا سيما الخط النبطي الذي أخذ عنه كثيرا من الخصائص، وما الطريقة الإملائية التي رسم بها المصحف العثماني في أول عهده إلا دليل على ذلك، حيث رسم معطلا من الإعجام والنقط، بل هناك من الدلائل في طريقة الرسم هذه، ما يدل على هذه الخاصيات الإملائية والكتابية الأخرى التي أخذتها الكتابة العربية عن أختها النبطية، مثل حذف الألف الممدودة من وسط الكلمة، وكتابة التاء المؤنثة (المربوطة) تاء مبسوطة في نهاية الكلمة، وزيادة الواو في آخر الاسم. فكل هذه المميزات في الرسم هي مشتركة بين الكتابة العربية في أول عهدها والخط النبطي[17].

فالطريقة الإملائية التي دونت بها المصاحف العثمانية، كانت هي السائدة في الكتابة العربية، أي أنها كانت لا تعرف الإعجام ولا الإعراب. فنقش القاهر (31هـ) الذي كتب مهملا من هذه الضوابط في الرسم، يعاصر نفس الفترة التي دونت فيها هذه المصاحف، والتي جردت هي أيضا من الإعجام والنقط. و"الرسم العثماني بما فيه من تنوع الأمثلة الكتابية وكثرتها، يقدم نموذجا حقيقيا لما كانت عليه الكتابة العربية في النصف الأول من القرن الهجري الأول، حين كان الناس في تلك الأيام لا يلاحظون فرقا بين رسم المصحف وكتابتهم في الأغراض الأخرى[18]".

إذن، ماذا يمكن أن نستوحي من كل هذه الآراء التي انقسمت –كما رأينا- قسمين، أحدهما يقول بوجود النقط والإعجام في الكتابة العربية قبل الإسلام بقرون، وقدم بين يديه لذلك، دلائل واستنتاجات، بينما ذهب الثاني إلى أنها محدثة في أوائل الإسلام بناء على شواهد نظرية ومادية؟

إن المتتبع لما قاله هؤلاء الباحثون في تاريخ الكتابة العربية، يستنتج أن الإعجام والإعراب كانا معروفين منذ العصر الجاهلي، إلا أن هذا النوع منهما، لم يكن له نفس المفهوم الذي صار له بعد الإسلام. لأن الوظيفة الإملائية والإعرابية والصرفية التي كانت لهذه الضوابط في تلك الحقبة، وكذا الطرق الإملائية التي كانت ترسم بها قد اختلفت قليلا أو كثيرا عما أصبحت تؤديه وتعنيه بعد الإسلام، وما عرفته الكتابة العربية من تطور حينذاك، كما سنرى بعد قليل.

إن وجود أكثر من حرف في هذه الكتابة القديمة التي ترسم بصور واحدة، والتي كانت تهمل من نقط الإعجام في الظاهر، لم يوجد هذا الشكل الواحد في رسمها هكذا عبثا واتفاقا، بل لا بد من قضية هناك، لم يستطع الباحثون الوصول إليها بعد. لكن هناك من حاول ذلك، وعلل إهمال هذه الضوابط في الكتابة القديمة "هذا معناه أن واضع الكتابة المضرية يكون لاحظ مثلا تبادلا بين الأصوات في لهجات اللسان العربي، فوضع للأصوات المتبادلة أشكالا متشابهة. وضع الجيم والحاء والخاء متشابهة وجردها من النقط(؟) يسهل على من يريد أن ينقطها بلهجته. ومن هذا الباب الدال والذال والسين والشين والصاد والضاد وغيرها من الحروف" وخصوصا "إذا علمنا أن العادة عند شعوب المنطقة هي تخصيص الرمز بالصوتين والأصوات لا بالصوت الواحد[19]".

وهناك من الباحثين من يذهب إلى أن العرب في هذا كانوا متأثيرين بالسريان الذين كانوا يرمزون برمز واحد للدلالة على صوتين، مثل "الدال والراء" وكانوا يرمزون إليهما برمز"[20].

لذلك كان تجريد المصاحف العثمانية من الإعجام والشكل، إنما هو إتاحة الفرصة للمسلمين ليقرأ كل منهم القرآن حسب لهجته. فهناك من كان يقرأ (فقبضت قبضة) ومنهم من يقرأها (فقبضت قبصة)[21]. والمعنى اللغوي متقارب بين الفظين.

ويؤيد تعدد القراءات لصور الرمز الواحد، ما ذكره أبو عمرو الداني حين تعليله لإهمال المصاحف من هذه الضوابط "وإنما أخلى الصدر منهم المصاحف من ذلك ومن الشكل من حيث أرادوا الدلالة على بقاء السعة في اللغات، والفسحة في القراءات التي أذن الله تعالى لعباده في الأخذ بها، والقراءة بما شاءت منها، فكان الأمر على ذلك إلى أن حدث في الناس ما أوجب نقطها وشكلها[22]".

فإذا كان الصواب بجانب هذه الآراء الأخيرة أو قريبا منها، فإن عدم إثبات الإعجام والإعراب في الأبجدية العربية القديمة كان عديم الجدوى، بل كان يعتبر خطأ في حق القارئين لهذه الكتابة، لأن هذه الحروف المتعددة الصور في الرسم، والتي ترجع في أصلها إلى رمز واحد، كانت تعجم أو تهمل حسب كل لغة (لهجة) عربية.

2 ـ العصر الإسلامي:

إذا كانت اللغة العربية الفصحى في العهد الجاهلي، قد وحدتها اللغة الأدبية، فإن مجيء الإسلام، ونزول الوحي بهذه اللغة، قد أعلن الوحدة النهائية والتامة للسان العرب أجمعين، كما أعلن الوحدة الدينية والسياسية والاجتماعية. فكان من الضروري، وتحت إلحاح عدة عوامل لغوية واجتماعية واقتصادية، إعادة النظر في تركيبة الأبجدية العربية، وقواعدها الهجائية والإملائية، وفي مقدمة ذلك الإعجام والإعراب.

إن اتساع الإمبراطورية الإسلامية في ذلك العهد، واعتناق شعوب كثيرة من غير العرب للإسلام، واتخاذ اللغة العربية لغة لهم، سيما وأنها اللغة التي فضلها الله فأنزل بها القرآن فصارت هي لغة التواصل اليومي، سواء على صعيد الخطاب الديني أو الأدبي أو العلمي. إلا أنه كان نتيجة ذلك أن فشت العجمة في اللغة، وانتشر اللحن بين هؤلاء الناطقين بها من غير العرب بل سرى إلى ألسنة العرب أنفسهم، نظرا للتمازج الذي آلت إليه هذه الأجناس من أفراد المجتمع الإسلامي.

كما أن المسلمين غبروا يقرأون القرآن من المصاحف العثمانية التي وزعت على الأمصار الإسلامية، والتي كانت مجردة من الإعجام والنقط الأكثر من أربعين سنة. فاختلفت القراءات القرآنية، نتيجة تعطيل كتابة المصاحف من هذه الضوابط الإملائية، فانزعج لذلك العلماء والأمراء والحكام على السواء. ففزع الحجاج بن يوسف(95هـ) إلى العلماء وأهل اللغة، لينظروا في الأمر، ويعملوا شيئا يجنب القراء وغيرهم من المسلمين التصحيف[23] والتحريف في كتاب الله، وليسنوا قواعد لغوية تصون اللغة العربية مما طرأ عليها من هذه الظواهر.

ومن الباحثين والدارسين من قال بأن الذي أمر بذلك زياد بن أبيه، ومنهم من قال بأنه ابنه عبيد الله[24].

كما اختلف علماء العربية في أول من وضع الإرهاصات الأولى للنقط (الشكل والإعجام (النقط)، أهو أبو الأسود الدؤلي (69هـ) أم تلاميذه، وفي مقدمة هؤلاء نصر بن عاصم الليثي(89هـ)[25] ويحيى بن يعمر(129هـ) فإن أبا الأسود الدؤلي، وهؤلاء جميعا كان دافعهم الأول والأساسي هو تحصين كتاب الله بصيانة اللغة من هذه الأخطاء الدخيلة عليها، فاصطنع أبو الأسود نقط الحركات الإعرابية من فتح وضم وكسر وتنوين، ورسمها على شكل نقط مدورة توضع إما فوق الحرف أو تحته أو أمامه. وكانت تكتب بمداد مغاير اللون لمداد الكتابة. وأن طريقة الشكل هذه ظهرت خلال الربع الثاني من النصف الأول للقرن الأول الهجري واستمرت إلى عهد عبد الملك بن مروان[26].

وقد اعتمد هذه القاعدة في الشكل الإعرابي تلاميذه من بعده، وكلهم من القراء، فأصلوها في الخط العربي. إلا أن هذه الضوابط الإعرابية، وإن ساهمت في ضبط الكلمة العربية المقروءة من حيث الإعراب، فإنها لم تكن لتمس ظاهرة التصحيف التي ظلت شائعة في القراءات القرآنية وغيرها، فثبت لدى علماء اللغة أنه لا بد من إضافة ضوابط أخرى أكثر دقة للحروف التي ترسم على صورة واحدة حتى تتميز عن بعضها، فكان وضع الإعجام أو النقط حسب المفهوم الذي أخذه بعد ذلك.

أما كيف اهتدى أبو الأسود الدؤلي وتلاميذه من بعده إلى طريقة وضع علامات الإعراب على شكل نقط، وكيف نقطت الحروف المعجمة للغة فيما بعد، فهناك تساؤل لا بد من طرحه، فهل كان ذلك اختراعا واجتهادا من هؤلاء العلماء أنفسهم، أم أن له جذورا في الأبجدية العربية القديمة؟

فمن الدارسين من قال، بأن أبا الأسود كان متأثرا في ذلك كغيره من الصحابة الآخرين بطريقة الشكل عند السريان والعبرانيين. وقد كان عند هؤلاء عبارة عن نقط هو أيضا، يوضع فوق الحرف أو تحته، مخافة الالتباس في كتاباتهم، لأن اليهود قد عرفوا الشكل في كتبهم المقدسة[27].

ومن الباحثين من صرح بذلك قائلا "أي أن أبا الأسود هو أول من ابتدع الشكل بالنقط في اللغة العربية، وكان متأثرا في ذلك من غير شك بالشكل عند النساطرة من السريان[28].

أما واضع الإعجام للحروف المتماثلة في الرسم، فإن المصادر تكاد تجمع على نصر بن عاصم الليثي، ومنهم من يقحم في الأمر يحيى بن يعمر[29]، وهما معا تلميذا أبي الأسود. ومهما كان الأمر، فإنهما كانا متأثرين مثل أستاذهما في إعجامهما للمصاحف بالطريقة التي وضع بها الإعجام للغة السريانية.

ويذكر بعض الباحثين، بأن هؤلاء العلماء القدماء عندما عزموا على إعجام حروف الأبجدية العربية المعجمية، صنفوها تصنيفا معينا، بحيث مكنهم من إعجام: الباء والتاء والثاء والجيم والخاء والنون والياء[30]. ثم أعادوا ترتيبها على الطريقة المعروفة عندنا اليوم:

ا، ب، ت، ث، ج، ح، خ

د، ذ، ر، ز، س، ش، ص، ض، ط، ظ، ع، غ، ف، ق،

ك، ل، م، ن، هـ، و، ي

وهكذا قسموها إلى جانحين وقسم أوسط يتكون من أربعة عشر حرفا و"كل رمز يؤدي حرفين". ولكي يميزا بينهما نقطوا حرفي كل رمز، الأول من أسفل، والثاني من فوق. فأعجموا جميع هذه الحروف المزدوجة. إلا أنهم في الأخير اكتفوا من كل رمز من هذه الحروف، بالحرف الثاني معجما من فوق، ولم يعجموا الأول من تحت. باستثناء الأبجدية المغربية التي حافظت على إعجام حرفي رمز معا، بحيث تعجم الفاء بنقطة من أسفل، والقاف بنقطة واحدة من فوق. وهناك خلاف في تاريخ وضع الإعجام للأبجدية العربية في العصر الإسلامي، فمن الباحثين من يحدده في الربع الأخير من القرن الأول الهجري[31]، ومنهم من لم يستطع تحديده، وقالوا بأنه مجهول التاريخ، والذي أقروا به أنه كان مستعملا منذ العصر الجاهلي[32]. كما أن الشيء المتأكد منه، أن الشكل بالنقط في العصر الإسلامي قد سبق وضع الإعجام، وأن الفرق الزمني بينهما يكاد يكون نصف قرن تقريبا.

وتعتبر عملية الإعجام هذه أدق وأكبر عملية في مسار إصلاح الخط العربي، وكانت بحق مفتاحا سحريا عمل على فك هذه الرموز من حروف هذه الأبجدية، حيث فتحت عوالم فسيحة أمام هذه اللغة بفضل هذا التطور الذي عرفته كتابتها. فإذا كانت ظاهرة اللحن قد اضطرتهم إلى استحداث نقط الإعراب، فإن ظاهرة التصحيف بدورها قد اضطرتهم أيضا إلى استحداث نقط الإعجام، "ومن المعتقد أن نقط (إعجام) الحروف العربية، لم يحدث إلا عند وقوع العرب في التصحيف"[33].

فهل يا ترى حصل الهدف من هذه الاصطلاحات الجديدة في الخط والإملاء، فكانت كافية لتصحيح رسم الهجاء العربي؟ إن واقع الكتابة العربية في ذلك الوقت، أفاد بأن نقط الإعجام لعب دورا بينا في التمييز ببين الحروف ذات الصورة الواحدة مما جعل ظاهرة التصحيف تخف وتضعف، لكنها لم تختف نهائيا مما يؤكد أن هذه الضوابط لم تكن نهائية في القضاء على الظاهرة، وأن الإشكال أصبح قائما في صعوبة التمييز بين النقطين رغم أن العلماء كانوا قد احتاطوا للأمر، فكان أحد النقطين يكتب بلون مغاير للآخر، وظل المسلمون يكتبون بهذه الطريقة، وعلى الشكل الذي وضعه أبو الأسود الدؤلي وتلاميذه إلى صدر الدولة العباسية[34].

وتحت تأثير هذه الأخطاء في القراءة التي بقيت سائدة بعد وضع النقطين معا، اهتدى الخليل بن أحمد بعقله النافذ إلى السبب الرئيسي للإشكال، وبدا له أن أكثر هذه التصحيفات والتحريفات إنما هي من جراء التباس النقطين ببعضهما، هذا إذا كانت الكتابة مقيدة…

ففكر في طريقة علمية حديثة لتغيير شكل نقط الإعراب الذي وضعه أبو الأسود الدؤلي، وهداه فكره الثاقب إلى أن جعله على الشكل الذي نكتبه به اليوم منذ ذلك العهد. فجعل الفتحة على هيئة ألف أفقية فوق الحرف، والكسرة على هيئة ياء مردودة تحت الحرف. والضمة على شكل واو صغيرة أمام الحرف. وجعل السكون رأس (خاء) علامة على تخفيف النطق بالحرف، والشدة من رأس قناطر حرف (الشين) الثلاث، مشتقة من لفظ (التشديد)، وجعل الهمزة من رأس (العين) المنفردة[35].

وهكذا صار عمل هؤلاء العلماء –الذين توالوا عبر الزمن، وعملوا على ابتكار قواعد للكتابة العربية- علما إملائيا قائما بذاته، له أسسه وقواعده التي أخذت تعلم وتدرس، وتلتزم أثناء الكتابة في الصحف، حتى تحصن اللغة من هذه الطوارئ الحادثة على اللسان العربي.

نقش أم الجمال (270م)

نقش النمارة (328م)

نقش زبد (512م)

نقش جبل أسيس (528م)

نقش (حران) أو (حوران) (68م)

نقش حفنة الأبيض (64هـ)

ملاحظة: لمن أراد الاطلاع على قراءة العلماء لهذه النقوش، فليرجع إلى المصادر المحال عليها.

 

 

 



[1] - إن مفهوم النقط عند القدماء هو حركات الإعراب من فتح وضم وكسر وسكون كما نستعملها اليوم. وأما الإعجام فهو النقط الذي يميز بين الحروف التي لها صورة واحدة في الرسم. فتنتقط من فوق أو من تحت. وهو ما نعرفه نحن اليوم باسم النقط.

[2] - إن الباحث في هذا الجانب من الموضوع يحتاط من هذه النقوش، لأنها لن تمدنا بكل ما يمكن أن نجزم به في هذا الموضوع. وذلك عائد بطبيعة الحال لصعوبة الحفر على الأحجار وكل ما يشابهها، فكثيرا ما يضطر الكاتب (الحافر) لذلك، إلى الاستغناء عن كثير من هذه الضوابط الإملائية، معتمدا في ذلك فراسة القارئ وأنه يستطيع قراءتها رغم ذلك. ولو أمدتنا هذه الآثار الكتابية القديمة بكتابة على الجلود أو الألواح، لاستطعنا الاطمئنان إلى ما تمدنا به من أشكال هذه الكتابة. وانظر: دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلي، ص101.

[3] - مجلة اللسان العربي، ص5، عدد 6/69.0

[4] - تاريخ اللغات السامية، ص197.

[5] - هو الأخنس بن شهاب بن شريق بن ثمامة بن أرقم (…) وهو شاعر جاهلي قديم، قبل الإسلام بدهر. المفضلية رقم 41، ص203 شعراء النصرانية، 2/184. موسوعة الشعر العربي، 3/140.

[6] - رقش – جندب أرقش، وحية رقشاء، فيها نقط سواد وبياض وكذا الرقشاء من المعز. الأصمعي: رقيش – تصغير رقش وهو تنقيط الخطوط والكتاب. ابن الأعرابي: الرقش الخط الحسن والرقش والترقيش- الكتابة والتنقيط، اللسان، مادة (رقش).

[7] - شعراء النصرانية، 3/282. الشعر والشعراء، 1/210. المفضليات، رقم 45 ص221.

[8] - الشعر والشعراء، 1/185، شعراء النصرانية، 3/298.

[9] - شعراء النصرانية، 3/316، الديوان، ص149.

[10] - صبح الأعشى، 3/161. المحكم في نقط المصاحف، ص3.

[11] - أصل الخط العربي وتطوره، ص156. مجلة فكر وفن، ص26، عدد3/64.

[12] - أسد الغاب، 1/193، والمحكم في نقط المصاحف، ص2. ويشير الدكتور أحمد العلوي إلى وجود ظواهر إعرابية وصرفية في الكتابات القديمة لسكان الجزيرة العربية. دراسات سميائية، ص112، عدد 1/87.

[13] - هو عثمان بن سعيد بن عثمان بن سعيد بن عمر الأموي مولاهم المعروف بانب الصيرفي، ويكنى أبا عمرو، وهو من أهل قرطبة (371/372-444هـ) معجم الأدباء 12/125. تذكرة الحفاظ 3/1120.

[14] - المحكم في نقط المصاحف، ص3.

[15] - المحكم في نقط المصاحف، ص3.

[16] - المورد، ص32-39، عدد 4/86. تاريخ اللغات السامية، ص202. أصل الخط العربي وتطوره، ص158.

[17] - مجلة المكتبة العربية، ص24، عدد 1/63، المورد، ص39، عدد 4/86. اللحن في اللغة العربية تاريخ وأثره، ص174. وكما ذكرت سابقا يتساءل الدكتور أحمد العلوي عن هذه (الواو) التي تضاف إلى آخر بعض الأسماء في الكتابة القديمة، بقوله: "هنا يتساءل عن الواو في "كلمو" ولماذا لم تضف الأسماء في كل الأسماء المنونة أو التي تقديرها أن تكون منونة؟ قد يكون الجواب هو أن إظهار التنوين بالواو من صفات الأسماء الأعلام في هذه الكتابة(…) وربما كان ذكر الواو الكتابي اختياريا. فإن اسم (جبر) واسم (شأل) لا واو فيهما. وربما كان الجواب الصحيح في هذه المسألة، هو أن الواو تضاف إلى الأسماء المنصرمة دلالة على صحة صرفها إلى كل الحركات. أما الأسماء التي لا واو فيها، فربما كانت تتحكم فيها قواعد تمنعها من التصرف الكامل". دراسات سميائية، ص112، عدد 1/87.

[18] - المورد، ص42، عدد 4/86.

[19] - دراسات سميائية، ص111، عدد 1/87.

[20] - مجلة المكتبة العربية، ص21، عدد 1/63.

[21] - س. طه، الآية 94، أصل الخط العربي وتطوره، ص157.

[22] - المحكم في نقط المصاحف، ص3.

[23] - مصدر صحف، يصحف الكلمة، اخطأ في قراءتها وروايتها في الصحيفة لاشتباه الحروف، وتصحف القارئ –كصحف- أخطأ في القراءة، لذا سمي مصحفا وصحافا وصحفيا. لسان العرب، مادة (صحف)، التنبيه على حدوث التصحيف، ص3-4.

[24] - التنبيه على حدوث التصحيف، ص27، شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف، ص14. تصحيح التصحيف وتحرير التحريف، ص6. صبح الأعشى، 3/155، 166. المدارس النحوية، ص16.

[25] - طبقات فحول الشعراء، 1/31. طبقات النحويين واللغويين، ص27، بغية الوعاة، ص403.

[26] - صبح الأعشى، 3/160. المحكم في نقط المصاحف، ص6-24. مجلة اللسان العربية، ص51، عدد 6/69. أصل الخط العربي وتطوره، ص153.

[27] - أصل الخط العربي وتطوره، ص148.

[28] - مجلة المكتبة العربية، ص20، عدد 1/63.

[29] - المحكم في نقط المصاحف، ص5-6.

[30] - مجلة المكتبة العربية، ص21-22، عدد 1/63.

[31] - مجلة المكتبة العربية، ص23، عدد 1/63.

[32] - أصل الخط العربي وتطوره، ص154.

[33] - أصل الخط العربي وتطوره، ص154.

[34] - مجلة اللسان العربي، ص52، عدد 6/69.

[35] - المحكم في نقط المصاحف، ص6. مراتب النحويين، ص54. تصحيح التصحيف، ص6.